هنا , هناك
أيٌّ منهما تليق بك؟
________
” الذي يبصق في وجهك يغسله لك أيضاً “.
أتعلم مالذي أفعله الآن -غير الكتابة-؟ التأمل. لطالما ابتعدت عن التأمل خشية طرق أفكاراً خبيثة لعقلي, ولطالما جنحت بي الذاكرة إلى الأسئلة التي تداهم عقلي الصغير حينذاك, فأحاول عبثاً أن أهرب من ذاكرتي اتقاءً لتلك الصفعات التي لم تسلم منها وجنتيّ, فأقول: سبحان الله, وأنا لا أفقه حتّى معنى هذه الكلمة, ولكن الخوف الذي لا أستطيع كبحه يغلبني دائماً. ولطالما أضعت الوقت فيما لايغني ولايسمن من جوع, ولكنني مثلك بالضبط لم أكن أفكر إلا بالسلبيات. (أن تفتح لعقلك نافذة تجلب لك الاختناق بدلاً من طرده, فهذا يعني أنك فتحت النافذة التي يجب أن تحكم إغلاقها) بالضبط هذا مالم أكن أعرفه, غير أن عقارب الوقت التي أكره تكتكتها تعلل سبب قصر تفكيرك في حقبةٍ ما, وتعلمك مالم تعلم.
” ذلك البعيد أنا* “
أنت تعلم عشقي الكبير لهذا الرجل كما تعلم أنه الإنسان الذي ينقل لك البؤس ويعذبك, لا لأنه يريد أن يقتص منك, بل ليذكرك بالحضيض الذي يلعق تلك الأجساد, ويشرع لك النوافذ التي يجب أن تنظر من خلالها إلى: القرى المنسية, الطبقة المهمشة, العذابات, الفقر, الحاجة, باختصار: إلى مالا تحب أن تراه. وتعلم أيضاً أن هناك تشابهاً كبيراً بينك وبينه ولكنك تختلف عنه بدعوتك لشخصٍ واحد فقط لينظر من خلال نوافذك إلى لوحاتٍ تظن أنها سريالية, حتّى وأنت تعلم أن الواقع لايرضى أن تنسبها لغيره. هه لا أحد يفعل مثلما تفعل, غير أن الإنسان يتعلم أيضاً من أخطاءه, ولكنك تزيد من أخطاءك وكأنك تعاند نفسك. ألم تقل ذات يوم: أنك لاتحب أن تقرأ لعدنان الصائغ, لأنه يذكرك بالوطن, فتنهرني كلما ردّدت مقولته: أنحني كالقوس على نفسي ولا أنطلق, أشياء مريرة تشدني إلى الأرض. وأنت يا أيها المنحني تريد أن تنطلق, أن تعود, ولكن أشياءً مريرة تغلب ماتبتغي, فتبقى متأملاً بأظافرك الطويلة التي تركت لأسنانك تقليمها.
يكفي أن تصعد جبلاً فتطلق صرخة كبيرة, لتفهم أنك لست وحيداً. هناك جزءاً منك هرب ولكنك استطعت التحكم به عبر صرختك, ولئن اختفى ذلك الجزء, فهذا لأنك كللت ومللت من تفريغ كبتك فتوقفت عن الصراخ معلنا الخنوع لرغبة حنجرتك. شيئان لاتستطيع الانعتاق منهما: روحك, وجنسك. تستطيع أن تتقمص دور الغبي, الأبله, الشرير, الجميل, الوديع, المريض, فيصدقك الآخرين؛ لأنك تشبه الذي صعد الجبل وأطلق جزءاً منه ليتحكم به عن بعد وعندما تكل تغير الدور بآخر. ولكنك لاتستطيع أن تتقمص دور الميت لأن روحك لم يُؤذن لها بذلك, ولا دور الجنس الآخر لأنك لست مستقيماً, وكلما حاولت أن تستقيم تنكسر.
أخبرتك أن الاستفهام يعني لي أشياءً كثيرة, أنت أولها. أتعلم لماذا؟ لأنك لاتفهم معنى أن ترى حلمك نصب عينيك, ولكن يدك عاجزة عن الإمساك به, شفاهك عاجزة عن مناداته, وكأن جسدك مشولاً شللاً كاملاً. تذكرني دائماً بالسراب, كلما تقترب منه ينأى عنك وتظل تطارده, وكلما نظرت إليه تشتاق إلى قطرةٍ تغسل بها جفاف ريقك, ولكنك فجأة تجد نفسك في صحراءٍ قاحلة لاتدري مالذي أتى بك إليها, فتثوب إلى رشدك وتتذكر الخدعة التي وقعت في براثنها. هه ألا ترى أنك تدعو للاستفهام؟
لكل بداية نهاية, وفي أحيان يطول انتظار النهاية إلا أن مجيئها أمراً حتمياً, وفي أحيان تنتهي البداية بعد وقتٍ قصير من بدايتها, وكل ذلك أمراً متروكاً للأيام, فهي التي تعرف متى تزيح الستار عن الحقيقة, وهي التي لا ولن تخبئ أحداً.